بين غورور وماكرون… قرن من الزمن وهدف واحد
بدا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي زار لبنان في مئوية تأسيسه، كأنّه مندوب سامي جديد، وبدل الإحتفال بمئوية الكيان، بتنا كلبنانيين وكأنّنا نحتفل بوضعه تحت الوصاية من جديد. ماكرون الذي عرّى الطبقة السياسية اللبنانية بسوء إدارتها للدولة، بدا كمدير المدرسة الذي يوبّخ التلاميذ الكسالى. استقر الرئيس الفرنسي في قصر الصنوبر وطالب أقطاب السلطة اللبنانية بالتعهّد بالاجتهاد والعمل على تطوير أنفسهم، وعدم تكرار الأخطاء السابقة.
وعن أجواء زيارة ماكرون تحدث د. خليل شتوي، المدير العام السابق في الإدارة اللبنانية، والمتابع للشؤون الفرنسية لـ “أحوال” واعتبر وصول إيمانويل ماكرون لسدّة الرئاسة عام ٢٠١٧ أحدث تغييراً في السياسة الخارجية للدولة الفرنسية. ولفت شتوي أنّ الرئيس الفرنسي القادم الى عالم السياسة بعد دراسة للفلسفة وللعلوم السياسية والذي تخرّج من المعهد الوطني للإدارة، وعمل في حقل المصارف ( بنك روتشيلد) وفي العديد من اللجان الاقتصادية والاستشارية، عمل مع المفكّر برنارد اّتالي، خلال حملته الانتخابية، حيث أرسى مفهوماً وسطياً جديداً في السياسة، اعتمد من خلالها مقولة: يسار ويمين في آن واحد بدلاً عن مقولة لا يمين ولا يسار.
وطبّق ماكرون المفهوم الجديد في سياسته الخارجية، ومعه انطوت حقبة فرانسوا هولاند، ونيكولاس ساركوزي، وكذلك جاك شيراك. فقد دعا الرئيس الجديد الى إعادة فرنسا إلى الساحة الدولية من دون إنحيازات أيدولجية، معتبراً أنّ الديمقراطية لا تُصنع من الخارج بمعزل عن إرادة الشعوب، مبشّراً أنّ عهده سيشهد نهاية المحافظين الجدد المستوردة إلى فرنسا منذ عشر سنوات، داعياً إلى انسحاب فرنسا من المواجهة مع روسيا والصين، وإلى البحث في سبل الدفاع عن المصالح الفرنسية وفق ما وصفه بالواقعية السياسية او البراغماتية. واعتبر ماكرون أنّ فرنسا كانت محقة حين عارضت غزو العراق وكانت مخطئة في خوض الحرب في ليبيا .
وقال شتوي إنّ ماكرون انتهج “الديغولية” في السياسة الخارجية، تحديداً بتعامله مع الولايات الأميركية المتحدة، حيث لم يقبل أن يكون تابعاً لأميركا بل حليفاً موازياً لها، وقد ظهر هذا في التمايز مع أمريكا بمواقف عدّة حول إيران وروسيا مروراً بسوريا وأوكرانيا. هذا، ورفض ماكرون محاصرة قطر، وكان له الدور الأبرز في تحرير رئيس الحكومة السابق سعد الحريري من سجن الريتز في السعودية.
إلى ذلك، رأى د. شتوي أنّ مبادرة ماكرون في لبنان اليوم مشابهة لحكم الجنرال هنري غورو، مؤسس الكيان اللبناني في عام ١٩٢٠. فغورو، بحسب قوله انتدبه إلى لبنان رئيس الحكومة الفرنسية آنذاك جورج كليمونصو لكونه عسكرياً منتصراً في عدة معارك، إن كان داخل فرنسا أو في القارة الإفريقية، وكان يستطيع مفاوضة الحاكم العسكري البريطاني الجنرال إدموند اللنبي، وأيضا كان كاثوليكياً ينتمي إلى الحزب الكولونيالي، الذي اشتهر بتعاطفه مع العرب والمسلمين، إذا هو يستطيع التعاون مع المكونين المسلم والمسيحي.
وفي مقارنة بين العهدين، لفت شتوي أنّ صرخة ماكرون اليوم “أصلحو أنفسكم لنساعدكم”، هي نفسها الصرخة التي أطلقها “غورو في افتتاح معرض بيروت الدولي الأول عام 1921 عندما قال: ” أوقفوا فساد الدولة، ساعدوا أنفسكم لنساعدكم”. وفي نفس الخطاب قال: ” لبنان لن يعرف الإزدهار طالما استمّر النزاع ما بين مكوناته الطائفية وطالما أنّ تعيين المسؤولين والموظفين والقضاة لا يتم وفق كفاءاتهم وعلمهم وقيمهم.” واعتبر شتوي، أنّ الإنتداب آنذاك كان مفهوماً ومصطلحاً حديثاً، يقوم على اعتبار البلاد غير مكتملة النمو، ولا يمكن الاعتراف بوجودها ككيانات مستقلة إلا جزئياً فقط، رهناً بنقل خبرة الإدارة العامة والمساعدة التقنية من الدول المنتدبة لمدة زمنية، مرتبطة بقدرة هذه الكيانات على الوقوف على قدميها. وبعد مرور قرن على الانتداب، يعود الرئيس الفرنسي ليثبت في لبنان دوراً فرنسياً متقدماً وليحفظ لبلده المقام الأول في مواجهة دور عثماني متجدّد، بعد أن انتدبه منذ مئة عام على أنقاض الولاية العثمانية، وهنا تلفتنا رمزية مرفأ بيروت، فالذي عمل على تطويره وتوسيعه هو الجنرال غورو نفسه
لبنان يبدو كأنّه سيارة الدولوريان الشهيرة، من فيلم “العودة الى المستقبل”، ولكن لو أن دوك براون هو السائق، لم يكن ليقبل إعادتنا إلى زمن الإنتداب كما أعادنا إليها هذا النظام الفاشل.
محمد شمس الدين